الفكر الإسلامي

 

طريقة استكمال الصلاة

بقلم : الشيخ الكبير المربي الجليل العلامة أشرف علي التهانوي

المعروف بـ “حكيم الأمة” المتوفى 1362هـ / 1943م

تعريب : أبو أسامة نور

 

 

 

        لاستكمال الصلاة لابدّ من تعوّد مراقبة الموت ومراقبة لقاء الله، وأرى في ضوء ذوقي الديني أن المراد في الآية الكريمة: «قَدْ أَفْلَحَ الْـمُوْمِنُونَ الَّذِيْنَ هُمْ فِي صَلَوٰتِهِمْ خَاشِعُونَ» (المؤمنون/2) أن يشغل المصلي القلب بهذه المراقبة داخل الصلاة أيضًا. وطريقةُ ذلك أن يتأمل هيئةَ الصلاة، ويقول في نفسه لنفسه: إنّ قيامي هكذا منصرفًا عن الدنيا كلّها واضعًا إحدى يديّ على الأخرى بحيث ليس مسموحًا لي أن أتحادث مع أحد أو أنظر إليه أو آكل وأشرب، إنما هو لأني واقف أمام الله، وأسأله حاجاتي. ويفكر في حالة القيام: كم من نعمة أنعمها الله عليه، واجب عليه شكرها. ولدى قراءة الفاتحة ينبغي أن يتصوّر أن يشكر الله على نعمه، ويُقرّ بربوبيّته تعالى وعبديّته هو، ويسأله أن يوفقه للثبات على عبديته له وعلى صراط الذين كانوا من المُنْعَمِين عليهم وكانوا ذوي عبديّة، ويتبرأ من طريق أولئك الذين ضلّوا عن منهج العبوديّة واستحقوا الغضب واللعنة من الله، ويتعهّد بأنه سيثبت على التمسّك بالدستور الذي أنزله تعالى لاستكمال منهج العبوديّة. وذلك هو الذي تعنيه قراءة سورة بعد الفاتحة.

التفكير في حالتي الركوع والسجود:

     وينبغي أن يستحضر في الركوع أنه خُلِقَ من التراب الذي هو تحت رجليه، إن خلق الإنسان الحي المتيقظ، السميع البصير، من تراب الأرض إنما هو راجع إلى قدرة الله جلّ وعلا. والذي خُلِقَ من الأرض، لا يليق به شيء سوى العبودية لله تعالى. إن الكبرياء والعظمة إنما هما تليقان بالله الخالق البارئ جلّ وعلا الذي هو مُنَزَّهٌ من جميع المعايب والنقائص؛ ولذلك وَرَدَ الأمرُ بتكرار «اللهُ أكبر» في الصلاة. الأمر الذي يعني أن المصلي يعلن: اللّهم إني أضحي بعظمتي الوهمية تجاه عظمتك الحقيقية.

     وكذلك ينبغي له أن يستحضر لدى السجود أنه سيُدْفَنُ يومًا في الأرض، حيث لا ينصره أحد سوى الله، ويَـمَّحِي اسمه من الدنيا ولايبقي له فيها عين ولا أثر. وينبغي أن يستحضر في السجدة الثانية كأنه قد مات، ولقي اللهَ، وليس معه إلاّ هو.

     ثم يستحضر في جلسة التشهّد أنه سيُبْعَث بعد الموت، ويُمْنَحُ حياةً أخرى لا ينفع فيها إلاّ الإسلامُ والأعمالُ والأقوالُ والأحوالُ الصالحة التي تكون قد مُوْرِسَتْ لابتغاء وجه الله، وستتبدّى فيها حرمة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والملائكة وجميع الصالحين، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سيشفع للمسيئين والمذنبين، فليُعَزِّزْ صلته به بالسلام عليه، وبما أنه أمته - صلى الله عليه وسلم - تتعلق به - صلى الله عليه وسلم - بأمتن الصلات والعلاقات، فليقرأ عليه في القعدة الأخيرة التي تلي الركعة الأخيرة الصلاةَ بصفة خاصّة. إذا تَعَزَّزَتْ هذه التصورات، فليَتَصَوَّرْ في القعدة الأخيرة أنه قد مثل بعد الموت في ساحة القيامة، وكل الأقوال والأعمال التي قام بها في الدنيا ماثلة لديه، ولا ينفعه منها إلاّ ما أَدَّاه لله تعالى خالصًا، وسيّدنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وجميعُ الأنبياء والصلحاء والملائكة ماثلون لدى الله ويتراؤن له، وهو يُصَلِّي ويُسَلِّم عليهم جميعًا.

     وأخيرًا يدعو الله تعالى لنجاته وفلاحه؛ ومن ثم وردت في الآية كلمةُ : «يَظُنُّونَ». والآية بكاملها:

     «وَٱسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رٰجِعُونَ» (البقرة/45-46).

     على حين أن الاعتقاد الجازم بلقاء الله فرض، فلا يكفي الظنُّ؛ ولكن المقصود ههنا هو استحضار لقاء الله واستذكار الرجوع إليه، ولايلزم هذا الاستذكارُ بمرتبة الوقوع وإنما يكفي في الصلاة ظنُّه وتصوّره، اي المُصَلِّي يظنّ ويتصوّر أنه ماثل الآن أمام الله؛ وقد مات أو يكاد يموت، وكأنه في عالم الآخرة؛ ولذلك اخْتِيرَتْ لفظةُ «يَظُنُّونَ».

     على كل فأداءُ الصلاة بهذا الطريق يُكْسِبُ الخشوعَ ويُذْهِب جميعَ الوسائس والخَوَالِج. واللهُ تعالى أعلمُ.

مفاسد جمع التبرّعات في هذه الأيام:

     تُسْنَدُ اليوم إلى الناس مناصبُ السكرتير وغيره، حتى يقوموا بجمع أكبرِ قدرٍ من التبرّعات، فيفـرضون على الفقراء قدرًا من التبرّعات كالضريبة، ويستوفونه بالإكراه بممارسة الضغط والنفوذ. ويُمْدَحُونَ على هذه العمليّة بأنّهم يحرصون جدًّا على النشاطات الدينيّة، سبحان الله! ما أجلَّ العملَ الذي يقـومون به؛ حيث يَضَعَون السكين على حلقوم الفقير ويستلمون منه التبرعات بالإكراه!.

     إنهم لأَحْسَنُ منهم بدرجات كثيرة أولئك الذين يمارسون جهارًا مهنةَ قُطَّاعُ الطريق؛ لأنهم ينهبون أمـوالَ الناس، وينفقـونها على أولادهم الذين تعييلُهم واجبٌ عليهم، فمصدر رزقهم حرام؛ ولكنهم أنفقوه في المصرف الذي، كان الصرف فيه واجبًا عليهم، فارتكبوا الحرام في كسب المال؛ ولكنهم أدّوا بذلك واجبًا عائدًا عليهم.

     أمّا هؤلاء السكرتيرون ومن إليهم من ذوي المناصب المماثلة، فيجمعون التبرعات عن الوجه غير المشروع والطريق الحرام، وينفقونها في الجهة التي لم تكن خدمتها واجبة عليهم؛ لأن خدمة أي جمعيّة ليست واجبة عليهم. وقد علمتم مسبقًا ما هو عقاب قطاع الطريق، فليستعدّ لذلك أولئك الذين يمارسون مهنةَ قطاع الطريق متمثلةً في صنيع أمثال هؤلاء المسؤولين عن جمعية وغيرها.

     ومن المؤسف جدًّا أنّه لا يُلاَحَظُ اليوم خلال جمع التبرعات أن ما يدفعه الناس من الأموال، هل كان دفعه منهم عن طواعية ورضا نفس منهم، أو كانوا في دفعهم إلى جامع التبرعات مُكْرهِين مدفوعين بضغط؟.

قَيَّدَ الله تعالى مالَ الزوجة أيضًا بطيب نفسها، فكيف بمال الغير؟

     قال تعالى مخاطبًا الأزواج في شأن مال زوجاتهم:

     «فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيـئًا مَّرِيـٔاً» (النساء/4).

     يعني إن وهبت الزوجة لزوجها من مهرها شيئًا عن طيب نفسها، جاز له أكله، على حين إن العلاقة بين الزوج والزوجة علاقة حبّ وعشق، ومثل هذه العلاقة قلما تفضي إلى كراهية نفس، فكيف يجوز استعمال مال الفقراء بدون طيب أنفسهم. وقد قال الله تعالى في موضع في شأن الزوجة أكثر من ذلك:

     وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّآ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۚ » (البقرة/237).

     يعني أن الزوجة إذا عَفَتْ لم يَبْقَ عليه شيءٌ من المهر يُؤَدِّيه إليها؛ ولكن الله عَلَّمَ المسلم الأدب، أدب الإيثار، فقال: أن يبادر الزوج إلى العفو بمعنى أن يُؤَدِّي إليها كاملَ المهر، أقربُ إلى التقوى؛ لأن في ذلك إحسانًا إليها وجميلَ تعاون معها. وذلك هو مُقْتَضَى الغيرة التي ينبغي أن يصدر عنها الرجلُ في تصرّفه مع الحياة.

آداب جمع التبرعات وقبول الهدية:

     وإذا كانت الشريعة قد أرشدت إلى هذه الآداب في التعاطي مع الزوجة وفي قبول ما تُهْدِي إلى الزوج، فكيف لا تكون لديها – الشريعة – آداب في شأن جمع التبرعات، أجل: لديها هذه الآداب التي لابدّ من مراعاتها. إن الشريعة قد أرشدت إلى آداب كذلك في شأن قبول الهديّة، منها ما جاء في الحديث:

     «عن عبد الله بن عمر، قال: سمعتُ عمر يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعْطِي من أتاء، فأقول: أَعْطِهِ من هو أَفْقَرُ إليه مني. فقال: «خُذْهُ إذا جاءك من هذا المال شيء وأنتَ غيرُ مُشْرِفٍ ولا سائلٍ فخُذْهُ. وما لا، فلا تُتْبِعْه نفسَك»(1).

     ولكن فيما يتعلق بجمع التبرعات تُتَّخّذ حيلةٌ وهي أن تُوَجَّهَ دعوة عامة على رؤوس الأشهاد للتبرع، حتى يتبرّع بخمس روبيات من كان ليتبرع في غير مرأى من الناس بروبية على الأكثر. وذلك صادرًا عن الحياء وناجيًا من التعيير. فاعلمُنَّ أن هذا الطريق المُتَّبَع لجمع التبرعات لا يجوز مُطْلَقًا؛ ولكن الناس يظنّون أنه لا معدى لهم عن هذه الحيلة. فأقول لهم: ما هو المقصود لدينا نحن المسلمين أصلاً؟ هل المقصود هذه الأعمال التي تقومون بها؟ أو المقصود هو الدين؟ لو كانت الأعمال هي المقصودة لما كان المنافقون في الدرك الأسفل من النّار؛ لأنهم هم الآخرون كانوا يقومون بالجهاد والصدقات وما إلى ذلك. فعُلِمَ أن الأعمال التي لم تصدر عن ابتغاء وجه الله ليست أعمالاً أصلاً. والمسلم غرضه الحقيقي هو رضا الله تعالى، فمهما كان العمل قليلاً ينبغي أن يكون مصحوبًا برضا الله. فمثلاً: إذا كانت دار الأيتام كبيرة جدًّا؛ ولكنها لم تُؤَسَّسْ على رضا الله، فماذا عسى أن تنفعنا نحن المسلمين؟!.

قصة جمعية:

     فهناك جمعية كبيرة – ولا أريد أن أُسَمِّيَها – سمعتُ عنها قصةً عجيبة، أَدْهَشَتْنِي، وهي أن شخصًا في مدينة «لكناؤ» قَدَّم إلى عالم فقير متوكل على الله عقارات كبيرة لينفق منها على حاجاته؛ ولكنه رفض أن يقبلها. ثم قَدَّمَها إلى المسؤولين عن الجمعية قائلاً إنه يود أن يقفها عليها، ليُنْفَق ريعُها عليها، فقبلوها من فورهم. فتناول شعبُ «لكناؤ» تصرفهم هذا بانتقاد شديد، قائلاً: إن العالم الصالح الذي قُدِّمَتْ إليه هذه العقاراتُ هديةً، ولم يقبلها، كان مُفْرَدًا فلم يقدر وحده على تحمل الذنوب. أمّا الجمعيّة ففيها أثرياء مُتَشَبِّعون، فهم سيتحمّلونها بمجموعهم. فدلّت القصّةُ أن غرضهم كان يتلخّص في إدارة الجمعيّة وتسيير عَجَلِها، ولم يكن يهمّهم رضا الله تعالى؛ وإلاّ لفَرَّقُوا بين الحلال والحرام لدى قبول العقارات.

المفاسد كلّها ناتجة عن حبّ الجاه:

     وهذه المفاسد كلّها ناشئة عن حبّ الجاه؛ لأنهم يودون من وراء ما يقومون به من الأعمال أن يكسبوا مكانة في المجتمع. ففي «ديج» - أحد الأمكنة – لقيني سكرتير لجمعية وشكا إليّ عدم عناية الناس بها. قلتُ له: ما الذي يُحْوِجُك إلى أن تلفت الناس إلى الجمعية، وتشكو عدمَ اهتمامهم بها. والأحسنُ أن تبادر أنت إلى مباشرة العمل لحد مستطاع، ولا تزعج أحدًا منهم، والعمل من عندك بدورك يجذب الناس إلى الجمعية. وعند ما وَلَّى من عندي قال لي الحضور: ما أدراك مرضَ الرجل، صحيحٌ أنه بدوره لا يصنع شيئًا، وإنما يجيد فقط استخدام الناس وجمع التبرّعات منهم. موجز القول أن الكل يودّ أن يكون مسوؤلاً عن جمعيّة، أما العمل والنشاط فيريد أن يظلّ صفرًا فيه. وعلى ذلك فإن الناس يتظاهرون بخدمة الدين لأجل كسب الجاه، ولا يبتغون من ورائها وجه الله أو خدمة الدين في الواقع.



(1)            رواه البخاري: 1473، 7163، 7164.

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1436 هـ = يناير 2015م ، العدد : 3 ، السنة : 39